كان عرَقه صلى الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك ، كان إذا نام اشتد عرقه وكان يكثر القيلولة عند السيدة أم سليم أم سيدنا أنس بن مالك ، يقول سيدنا أنس رضي الله عنه: {دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَامْ عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ (زجاجة)، فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ}{1}
وعينه ترى إلى ما بعد البعد ، كل ما حدث ويحدث لأمته ألم يُحدثنا عنه؟ وما سيحدث في القبور وما سيحدث في النشور وما سيحدث في الجنة وما سيحدث في النار ، هل يوجد شيء لم يصفه؟ إذاً يرى من خلفه إلى ما قبل القبل ويرى من في الأمام إلى فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: {قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ، إِلا حَدَّثَ بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ}{2}
كل هذه الفتن التي نحن فيها تكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفصيل ، ولذلك نقول دائماً للأحباب: كما تقرأ في الصحف السيارة اقرأ في الصحف النورانية لخير البرية أخبار عصرنا الذي نحن فيه ، والعلماء الأجلاء الفقهاء لا يذكرون الأحاديث التي تتكلم عن العصور السابقة كالأمويين والعباسيين ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم له أحاديث لكل زمان إلى أن يرث الله الزمان والمكان ، لكن الفقيه هو الذي يأتي بأحاديث العصر ويتكلم فيها لأن أهل العصر يحتاجون لهذه الأحاديث
كل جماعة أو فئة من أمته في أي زمان ومكان لهم نصيب في حديث النبي العدنان صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله إلى آخر الزمان ، ونصيبنا من هذه الأحاديث يجب أن نبينه ونوضحه إذا كان الإنسان فقيه ، ليخبر الناس بما لهم وما خبَّرهم به النبي صلى الله عليه وسلم بما أوحى به الله عليه لأنه أصدق الصدق: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} النجم
كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير ، أى أنه وسط ، لكنه كما ذُكر في السِيَّر: ما مشى مع قوم إلا كان أطولهم مهما كان طولهم ، وما جلس مع قوم إلا كان أعلاهم أكتافاً مهما كان علوهم ، كيف يُكَيَّف ذلك بالظاهر؟ لكن بالنور الباطن يمكن ذلك ، ولذلك قال الله موضحاً هذه الحقيقة عن الكافرين ومثلهم المعترضين والنافرين: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} الأعراف198
لا يرون النور المكنون الذي جعله فيك الحي القيوم ، لا يرون إلا الظاهر: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} الفرقان7
{أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} القمر24
هو مثلنا لا يزيد عنا شيئاً ، كما نسمع من العوام ، لكنه صلى الله عليه وسلم يزيد زيادة لا عدَّ لها ولا حدَّ لها ، من يملك عيناً تنظر خلف الحواجز؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم معه عين تنظر إلى ما قبل القبل وإلى ما بعد البعد ، من أين جاءت هذه العين؟ إذا كان المؤمنون العاديون إذا جدَّوا واجتهدوا وصلحوا وانصلح حالهم ، قال الله في شأنهم: {كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا}{3}
فما بالك بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال: {اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ}{4}
إذا كان المؤمن ينظر بنور الله ، فبماذا ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ينظر بالله ، إذاً رسول الله ظاهره ليس مثلنا ، إذا كان الرجل في زمانه قال فيه:
وأجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خُلقت مبرءاً من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء ، وكان صلى الله عليه وسلم يرى في الثريا أحد عشر نجماً وكان صلى الله عليه وسلم لا يقعد في بيت مظلم حتى يضاء له بالسراج ، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الخضرة والماء الجارى
لا بد أن نستجمع هذه الصورة في تجاويف قلوبنا ونُعلقها في حنايا صدورنا حتى نقتدي به في كل حركاتنا وسكناتنا لأنه ميزان أعمالنا عند ربنا ، كيف يوزن العمل؟ بميزان رسول الله صلى الله عليه وسلم فالذي يريد أن يُصلي صلاة مضبوطة ، كيف يعملها؟ ينظر إلى رسول الله كيف كان يُصلي: {صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي}{5}
وقس على ذلك كل الأمور ، إذاً الذي يريد العطاء الإلهي والذي يريد أن يكون من أهل القرب ومن أهل الود ومن أهل سابقة العناية عند الله لا بد أن يتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتشبه به في ظاهره في مشيه وفي جلوسه وفي أكله وفي شربه وفي نومه وفي مجالسه وفي منطقه وفي مدخله وفي مخرجه وفي معاملته للخلق
ثم يرتقي فيتشبه به باطناً في أخلاقه المعنوية ، في كرمه وفي تواضعه وفي شجاعته وفي هيبته وفي عفوه وفي صفحه وفي لطفه وفي شفقته وفي حنانته وفي رحمته وفي أنسه وفي مودته ، فإذا أكرمه الكريم وتحلى بهذا الخُلُق الكريم أكرمه الله فتفضل عليه وجعله يُشبهه باطناً ، في خشيته وفي خوفه من الله وفي إقباله على مولاه وفي حبه لله وفي زهده في الدنيا وفي ورعه وفي سكينته وفي تقلب قلبه في الحضرة الإلهية يتشبه به في كل ذلك
فيُكرمه الكريم بعد ذلك ويُعطيه من العطاءات التي خصَّ بها حَبيبه ومُصطفاه ، وفى الأثر: {ما صُبَّ في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر}{6}
ماذا يصبُّ في صدره؟ من العلم ومن الإلهام ومن النور ومن الحكمة ، يُفيض عليه من العطاءات التي اختصه بها الله ، هذا طريق أهل العزائم وأصحاب الهمم القوية الذين يريدون أن يكونوا من الداخلين في قول الله:{فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ{88} فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ{89} الواقعة
وهناك قراءة أخرى: :{فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَاحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}
يشربون خمرة القرب من يد الحبيب فيغيبون عن كل شيء في هذه الحياة إلا ذكر الله وما والاه وما يُقربهم إلى حضرة الله ويعيشون مهيمين في قول الله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{163} الأنعام
هذا الكلام يجب أن يراه الغير فينا سلوكاً وخُلُقاً كريماً ، فإذا جمَّلوك بالأحوال أقبلوا عليك بكُمَّل الرجال لتعلو بهم بهمتك إلى مقام القرب من الواحد المتعال
{1} صحيح مسلم عن أنس {2} صحيح مسلم ومسند أحمد {3} صحيح البخاري وابن حبان عن أبي هريرة {4} سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري {5} صحيح البخاري والدارقطني عن مالك بن الحويرث {6} ورد فى تفسير روح البيان وفى تفسير الرازى، إلا أنى لم أقع له على تخريج
[/frame]